فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}.
قرأ هذا الحرف عامة الشبعة ما عدا ابن عام {ولا يشرك} بالياء المثناة التحتية، وضم الكاف على الخبر، ولا نافية- والمعنى: ولا يشرك الله جل وعلا أحدًا في حكمه، بل الحكم له وحده جل وعلا لا حكم لغيره ألبتة، فالحلال ما أحله تعالى، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه. والقضاء ما قضاه. وقرأه ابن عامر من السبعة. {ولا تشرك} بضم التاء المثناة الفوقية وسكون الكاف بصيغة النهي، أي لا تشرك يا نبي الله. أو لا تشرك أيه المخاطب أحدًا في حكم الله جل وعلا، بل أخلص الحكم لله من شوائب شرك غيره في الحكم. وحكمه جل وعلا المذكور في قوله: {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} شامل لكل ما يقضيه جل وعلا. ويدخل في ذلك التشريع دخولًا أوليًا.
وما تضمنه هذه الآية الكريمة من كن الحكم لله وحده لا شريك له فيه على كلتا القراءتين جاء مبينًا في آيات أخر. كقوله تعالى: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [يوسف: 40] وقوله تعالى: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [يوسف: 67] الآية، وقوله تعالى: {وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله} [الشورى: 10] الآية، وقوله تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فالحكم للَّهِ العلي الكبير} [غافر: 12]، وقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]، وقوله تعالى: {لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة وَلَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70]، وقوله: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]. وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب مُفَصَّلًا} [الأنعام: 114]، إلى غير ذلك من الآيات.
ويفهم من هذه الآيات كقوله: {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله. وهذا المفهوم جاء مبينًا في آيات أخر. كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنه ذبيحة الله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم. وهذا الإشراك في الطاعة، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى- هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس: 60-61]، وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم: {يا أبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيًّا} [مريم: 44]، وقوله تعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا} [النساء: 117] أي ما يعبدون إلا شيطانًا، أي وذلك باتباع تشريعه. ولذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء في قوله تعالى: {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} [الأنعام: 137] الآية. وقد بين النَّبي صلى الله عليه وسلم هذا لعدي بن حاتم رضي الله عنه لما ساله عن قوله تعالى: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله} [التوبة: 31] الآية- فبين له أنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أخل الله فاتبعوهم في ذلك، وأن ذلك هو اتخاذهم إياهم أربابًا. ومن أصرح الأدلة في هذا: أن الله جل وغلا في سورة النساء بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب. وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلًا بَعِيدًا} [النساء: 60].
وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور: أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيكان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم.
تنبيه:
اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام قسمان: إداري، وشرعي. أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع، فهذا لا مانع منه، ولا مخالف فيه من الصحابة، فمن بعدهم وقد عمل عمر رضي الله عنه من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
ككتبه اسماء الجند في ديوان لأجل الضبط، ومعرفة من غاب ومن حضر كما قدمنا إيضاح المقصود منه في سورة: بني إسرائيل في الكلام على العاقلة التي تحمل دية الخطأ، مع أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولم يعلم بتخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك إلا بعد أن وصل تبوك صلى الله عليه وسلم. وكاشترائه- أعني عمر رضي الله عنه- دار صفوان بن أمية وجعلهه غياها سجنًا في مكة المكرمة، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجنًا هو لا أبو بكر. فمثل هذا من الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما لا يخاف الشرع- لا بأس به. كتنظيم شؤون الموظفين، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع. فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به، ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة.
وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السموات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السموات والأرض.
كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، وأنهم يلزم استواؤهما في الميراث. وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم، وأن الطلاق ظلم للمرأة، وأن الرجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان، ونحو ذلك.
فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم- كفر بخالق السموات والأرض، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها وهو أعلم بمصالحها سبحانه وتعالى عن أن يكون معه مشرع آخر علوًا كبيرًا {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله} [الشورى: 21]، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلًا قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]، {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] وقد قدمنا جملة وافية من هذا النوع في سورة: بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] الآية. اهـ.

.قال الشعراوي:

ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ}.
وهذه الآية تعطينا لقطةً من المذكرة التفصيلية التي أعطاها الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم عن أهل الكهف، وهي تُحدِّد عدد السنين التي قضاها الفِتْية في كهفهم بأنها ثلاثمائة سنة، وهذا هو عددها الفعليّ بحساب الشمس.
لذلك؛ فالحق سبحانه لم يَقُلْ ثلاثمائة وتسعًا، بل قال: {وازدادوا تِسْعًا} [الكهف: 25] ولما سمع أهل الكتاب هذا القول اعترضوا وقالوا: نعرف ثلاثمائة سنة، ولكن لا نعرف التسعة؛ ذلك لأن حسابهم لهذه المدة كان حسابًا شمسيًا.
ومعلوم أن الخالق سبحانه حينما خلق السماوات والأرض قسَّم الزمن تقسيمًا فلكيًا، فجعل الشمس عنوانًا لليوم، نعرفه بشروقها وغروبها، ولما كانت الشمس لا تدلّنا على بداية الشهر جعل الخالق سبحانه الشهر مرتبطًا بالقمر الذي يظهر هلالًا في أول كل شهر، وقد قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض} [التوبة: 36]. فلو حسبتَ الثلاثمائة سنة هذه بالحساب القمري لوجدتها ثلاثمائة سنة وتسعًا، إذن: هي في حسابكم الشمسي ثلاثمائة سنة، وفي حسابنا القمري ثلاثمائة وتسعًا. ونعرف أن السنة الميلادية تزيد عن الهجرية بأحد عشر يومًا تقريبًا في كل عام.
ومن حكمة الخالق سبحانه أن ترتبط التوقيتات في الإسلام بالأهلة، ولك أن تتصور لو ارتبط الحج مثلًا بشهر واحد من التوقيت الشمسي في طقس واحد لا يتغير، فإنْ جاء الحج في الشتاء يظل هكذا في كل عام، وكم في هذا من مشقة على مَنْ لا يناسبهم الحج في فصل الشتاء. والأمر كذلك في الصيام.
أما في التوقيت القمري فإن هذه العبادات تدور بمدار العام، فتأتي هذه العبادات مرة في الصيف، ومرة في الخريف، ومرة في الشتاء، ومرة في الربيع، فيؤدي كل إنسان هذه العبادة في الوقت الذي يناسبه؛ لذلك قالوا: يا زمن وفيك كل الزمن.
والمتأمل في ارتباط شعائر الإسلام بالدورة الفلكية يجد كثيرًا من الآيات والعجائب، فلو تتبعتَ مثلًا الأذان للصلاة في ظل هذه الدورة لوجدت أن كلمة الله أكبر نداء دائم لا ينقطع في ليل أو نهار من مُلْك الله تعالى، وفي الوقت الذي تنادي فيه الله أكبر يُنادي آخر أشهد ألا إله إلا الله وينادي آخر أشهد أن محمدًا رسول الله وهكذا دواليك في منظومة لا تتوقف.
وكذلك في الصلاة، ففي الوقت الذي تصلي أنت الظهر، هناك آخرون يُصلّون العصر، وآخرون يُصلُّون المغرب، وآخرون يُصلّون العشاء، فلا يخلو كَوْنُ الله في لحظة من اللحظات من قائم أو راكع أو ساجد. إذن: فلفظ الأذان وأفعال الصلاة شائعة في كُلِّ أوقات الزمن، وبكُلّ ألوان العبادة.
ثم يقول الحق سبحانه: {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض}.
الأسلوب في قوله تعالى: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الكهف: 26] وأسلوب تعجُّب أي: ما أشدّ بصره، وما أشدّ سمعه؛ لأنه البصر والسمع المستوعب لكلِّ شيء بلا قانون.
وقوله: {مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 26] كأن الحق سبحانه وتعالى يُطمئِن عباده بأن كلامه حَقٌّ لا يتغير ولا يتبدل؛ لأنه سبحانه واحد أحد لا شريك له يمكن أن يُغيّر كلامه. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)}.
التفسير: ألصق الحمد والتكبير المذكورين في آخر السورة المتقدمة بالحمد على أجزل نعمائه على العباد وهي نعمة إنزال الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم. قال بعض العلماء: نزه نفسه في أوّل سورة: سبحان عمَّا لا ينبغي وهو إشارة إلى كونه كاملًا في ذاته، وحمد نفسه في أول هذه السورة وهو إشارة إلى كونه مكملًا لغيره، وفيه تنبيه على أن مقام التسبيح مبدأ ومقام التحميد نهاية موافقًا لما ورد في الذكر سبحان الله والحمد لله. وفيه أن الإسراء أول درجات كماله من حيث إنه يقتضي حصول الكمال له وإنزال الكتاب غاية درجات كماله لأن فيه تكميل الأرواح البشرية ونقلها من حضيض البهيمية إلى أوج الملكية ولا شك أن المنافع المتعدية أفصل من القاصيرة كما ورد في الخبر: «من تعلم وعلم وعمل فذاك يدعى عظيمًا في السموات» وإنزال الكتاب على النبي صلى الله عليه وسلم نعمة عليه وعلينا. أما أنه نعمة عليه فلأنه اطلع بواسطته على أسرار التوحيد ونعوت الجلال والإكرام وأحوال الملائكة والأنبياء وسائر النفوس المقدسة، وعلى كيفية القضاء والقدر وتعلق أحوال العالم السفلي بالعالم العلوي والشهادة بالغيب وارتباط أحدهما بالآخر. وأما أنه نعمة علينا فلأنا نستفيد منه أيضًا مثل ذلك ونعرف منه الأحكام الشرعية المفضية إلى إصلاح المعاش والمعاد. وفي انتصاب {قيمًا} وجوه فاختار صاحب الكشاف أن يكون منصوبًا بمضمر أي جعله وأنزله قيمًا. وأبى أن يكون حالًا لأن العطف يدل على تمام الكلام وجعله حالًا يدل على نقصانه. قال جامع الأصفهاني: هما حالان متواليان إلا أن الأولى جملة والثانية مفرد. وقيل: حال من الضمير في قوله: {ولم يجعل له} وفائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة هي التأكيد، فرب مستقيم في الظاهر لا يخرج عن أدنى عوج في الحقيقة هذا تفسير ابن عباس. ويحتمل أن يراد أنه قيم على سائر الكتب مصدّق لها شاهد بصحتها، وأنه قيم بمصالح العباد وما لابد لهم منه من الشرائع والأحكام، وعلى هذا يكون قوله: {ولم يجعل له عوجًا} إشارة إلى أنه كامل في ذاته، مبرأ عن الاختلاف والتنافض، مشتمل على كل ما هو في نفس الأمر حق وصدق.
وقوله: {قيمًا} إشارة إلى أنه مكمل لغيره مصلح بحسن بيانه وإرشاده لأحوال معاشه ومعاده، فتكون الآية نظير قوله في أول البقرة. {لا ريب فيه هدى للمتقين} ثم أراد أن يفصل ما أجمله في قوله فيما قال: {لينذر بأسًا شديدًا من لدنه} وحذف المنذر للعلم به بعمومه ولتطهير اللسان عن ذكره أي لينذر الذين كفروا عذابًا إليمًا صادرًا من عنده. والأجر الحسن الجنة بدليل قوله: {ماكثين فيه} وهو حال من الضمير في {لهم} ثم كرر الإنذار وذكر المنذر لخصوصه وحذف المنذر به وهو البأس الشديد لتقدم ذكره. وقد تذكر قضية كلية ثم يعطف عليها بعض جزئياتها تنبيهًا على كونه أعظم جزئيات ذلك الكلي. ففي عطف الإنذار المخصوص على الإنذار المطلق دليل على أن أقبح أنواع الكفر والمعصية إثبات الولد لله تعالى على ما زعم بعض كفار قريش من أن الملائكة بنات الله، وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله. ثم قال: {ما لهم به} أي بالولد أو باتخاذ الله إياه {من علم ولا لآبائهم} وانتفاء العلم بالشي إما بالجهل بالطريق الموصل إليه. وإما لأنه في نفسه محال فلا يتعلق به العلم لذلك وهو المراد في الآية، أي قولهم هذا لم يصدر عن علم ولكن عن جهل مفرط وتقليد لآبائهم الذين هم مثلهم في الجهالة. قال جار الله: الضمير في قوله: {كبرت} يعود إلى قولهم {اتخذ الله ولدًا} وسميت {كلمة} كما يسمون القصيدة بها. قلت: ويجوز أن يعود إلى مضمر ذهني يفسره الظاهر كقوله: ربه رجلًا ونعمت امرأة عندي. قال الواحدي: انتصبت {كلمة} على التمييز وذلك أنك لو قلت: كبرت المقالة أو الكلمة جاز أن يتوهم أنها كبرت كذبًا أو جهلًا أو افتراءً، فلما قلت: كلمة فقد ميزتها من محتملاتها. وقرئ بالرفع على الفاعلية كما يقال عظم قولك. قال أهل البيان: النصب أقوى وأبلغ لإفادته التعب من جهتين: من جهة الصيغة ومن جهة التمييز كأنه قيل: ما أكبرها كلمة. وفي وصف الكلمة بقوله: {يخرج من أفواههم} مبالغة أخرى من وجهين: الأول أن كثيرًا من وساوس الشيطان وهواجس القلوب لا يتمالك العقلاء أن يتفوهوا به حياء وخجلًا، فبين الله تعالى أن هذا المنكر لم يستحيوا من إظهاره والنطق به فما أشنع فعلتهم وما أعظم فحشهم. الثاني أن هذا الذي يقولونه لا يحكم به عقلهم وفكرهم ألبتة لكونه في غاية البطلان، وكأنه شيء يجري على لسانهم بطريق التقليد: احتج النظام على مذهبه أن الكلام جسم بأن الخروج عبارة عن الحركة من خواص الأجسام.